الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***
ركن الاجماع نوعان: العزيمة، والرخصة. فالعزيمة هو اتفاق الكل على الحكم بقول سمع منهم، أو مباشرة الفعل فيما يكون من بابه على وجه يكون ذلك موجودا من العام والخاص فيما يستوي الكل في الحاجة إلى معرفته لعموم البلوى فيه كتحريم الزنا والربا، وتحريم الامهات وأشباه ذلك، ويشترك فيه جميع علماء العصر، وفيما لا يحتاج العام إلى معرفته لعدم البلوى العام بهم فيه كحرمة المرأة على عمتها وخالتها، وفرائض الصدقات وما يجب في الزروع والثمار وما أشبه ذلك، وهذا لان ركن الشئ ما يقوم به أصله فإنما يقوم أصل الاجماع في النوعين بهذا. وأما الرخصة وهو أن ينتشر القول من بعض علماء أهل العصر ويسكت الباقون عن إظهار الخلاف وعن الرد على القائلين بعد عرض الفتوى عليهم أو صيرورته معلوما لهم بالانتشار والظهور، فالاجماع يثبت به عندنا. ومن العلماء من يقول بهذا الطريق لا يثبت الاجماع. ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه كان يقول: إن ظهر القول من أكثر العلماء والساكتون نفر يسير منهم يثبت به الاجماع، وإن انتشر القول من واحد أو اثنين والساكتون أكثر علماء العصر لا يثبت به الاجماع. وجه قولهم إن السكوت محتمل قد يكون للموافقة وقد يكون للمهابة والتقية مع إضمار الخلاف والمحتمل لا يكون حجة خصوصا فيما يوجب العلم قطعا، ألا ترى أن فيما هو مختلف فيه السكوت لا يكون دليلا على شئ لكونه محتملا. ويستدلون على صحة هذه القاعدة بما روي أن عمر رضي الله عنه لما شاور الصحابة في مال فضل عنده للمسلمين فأشاروا عليه بتأخير القسمة والامساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه في القوم ساكت فقال له: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: لم تجعل يقينك شكا وعلمك جهلا؟ أرى أن تقسم ذلك بين المسلمين وروى فيه حديثا، فهو لم يجعل سكوته دليل الموافقة لهم حتى سأله، واستخار علي رضي الله عنه السكوت مع كون الحق عنده في خلافهم. ولما شاور عمر الصحابة في إملاص المغيبة التي بعث بها ففزعت فقالوا: إنما أنت مؤدب وما أردت إلا الخير فلا شئ عليك وعلي رضي الله عنه في القوم ساكت فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا، وإن قاربوك فقد غشوك، أرى عليك الغرة. فقال: أنت صدقتني. فقد استخار السكوت مع إضمار الخلاف، ولم يجعل عمر سكوته دليل الموافقة حتى استنطقه. ولما بين ابن عباس حجته في مسألة العول للصحابة قالوا له: هلا قلت هذا لعمر؟ فقال: كان رجلا مهيبا فهبته، وفي رواية منعني درته من ذلك. وكان عيسى بن أبان يقول: ترك النكير لا يكون دليل الموافقة بدليل حديث ذي اليدين فإنه حين قال: أقصرت الصلاة أم نسيتها يا رسول الله؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وقال: أحق ما يقول ذو اليدين؟ ولو كان ترك النكير دليل الموافقة لاكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ولما استنطقهم في الصلاة من غير حاجة. وكان الكرخي رحمه الله يقول: السكوت على النكير فيما يكون مجتهدا فيه لا يكون دليل الموافقة لانه ليس لاحد المجتهدين أن ينكر على صاحبه باجتهاده، وليس عليه أن يبين له ما أدى إليه اجتهاده فالسكوت في مثله لا يكون دليل الموافقة. وجه قولنا إنه لو شرط لانعقاد الاجماع التنصيص من كل واحد منهم على قوله وإظهار الموافقة مع الآخرين قولا أدى إلى أن لا ينعقد الاجماع أبدا، لانه لا يتصور اجتماع أهل العصر كلهم على قول يسمع ذلك منهم إلا نادرا، وفي العادة إنما يكون ذلك بانتشار الفتوى من البعض وسكوت الباقين، وفي اتفاقنا على كون الاجماع حجة وطريقا لمعرفة الحكم دليل على بطلان قول هذا القائل، وهذا لان المتعذر كالممتنع، ثم تعليق الشئ بشرط هو ممتنع يكون نفيا لا صلة فكذا تعليقه بشرط هو متعذر، وهذا لان الله تعالى رفع عنا الحرج كما لم يكلفنا ما ليس في وسعنا، وليس في وسع علماء العصر السماع من الذين كانوا قبلهم يقرون فكان ذلك ساقطا عنهم فكذلك يتعذر السماع من جميع علماء العصر، والوقوف على قول كل واحد منهم في حكم حادثة حقيقة لما فيه من الحرج البين، فينبغي أن يجعل اشتهار الفتوى من البعض والسكوت من الباقين كافيا في انعقاد الاجماع، لان السامعين من العلماء المجتهدين لا يحل لهم السكوت عن إظهار الخلاف إذا كان الحكم عندهم خلاف ما ظهر وسكوتهم محمول على الوجه الذي يحل، فبهذا الطريق ينقطع معنى التساوي في الاحتمال ويترجح جانب إظهار الموافقة، ومثل هذا السكوت لا يرجح أحد الجانبين فيما يكون مختلفا فيه فيبقى محتملا على ظاهره، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: إنما يثبت الاجماع إذا اشتهر القول من أكثرهم لان هذا القدر مما يتأتى وإقامة السكوت مقام إظهار الموافقة لدفع الحرج فيتقدر بقدره، ولا حرج في اعتبار ظهور القول من الاكثر، ولان الاقل يجعل تبعا للاكثر، فإذا كان الاكثر سكوتا يجعل ذلك كسكوت الكل، وإذا ظهر القول من الاكثر يجعل كظهوره من الكل. ولكنا نقول: المعنى الذي لاجله جعل سكوت الاقل بمنزلة إظهار الموافقة أنه لا يحل لهم ترك إظهار الخلاف إذا كان الحكم عندهم خلاف ذلك، وهذا المعنى فيما يشتهر من واحد أو اثنين أظهر، لان تمكن الاكثر من إظهار الخلاف يكون أبين فلان يجعل سكوتهم عن إظهار الخلاف بعد ما اشتهر القول دليل الموافقة كان أولى. وأما حديث القسمة فإنما سكت علي رضي الله عنه لان ما أشاروا به على عمر كان حسنا، فإن للامام أن يؤخر القسمة فيما يفضل عنده من المال ليكون معدا لنائبة تنوب المسلمين، ولكن كان القسمة أحسن عند علي لانه أقرب إلى أداء الامانة والخروج عما يحمل من العهدة، وفي مثل هذا الموضع لا يجب إظهار الخلاف ولكن إذا سئل يجب بيان الاحسن، فلهذا سكت علي في الابتداء وحين سأله بين الوجه الاحسن عنده. وكذا حديث الاملاص فإن ما أشاروا به من الحكم كان صوابا، لانه لم يوجد من عمر رضي الله عنه مباشرة صنع بها ولا تسبب هو جناية، ولكن إلزام الغرة مع هذا يكون أبعد من القيل والقال، ويكون أقرب إلى بسط العدل وحسن الرعاية فلهذا سكت في الابتداء ولما استنطقه بين أولى الوجهين عنده، يوضحه أن مجرد السكوت عن إظهار الخلاف لا يكون دليل الموافقة عندنا ما بقي مجلس المشاورة ولم يفصل الحكم بعد، فإنما يكون هذا حجة أن لو فصل عمر الحكم بقولهم أو ظهر منه توقف في الجواب ويكون علي رضي الله عنه ساكتا بعد ذلك ولم ينقل هذا، فإنما يحمل سكوته في الابتداء على أنه لتجربة أفهامهم، أو لتعظيم الفتوى الذي يريد إظهاره باجتهاده حتى لا يزدري به أحد من السامعين، أو ليروي النظر في الحادثة ويميزه من الاشباه حتى يتبين له ما هو الصواب فيظهره، والظاهر أنه لو لم يستنطقه عمر رضي الله عنه لكان هو بين ما يستقر عليه رأيه من الجواب قبل إبرام الحكم وانقضاء مجلس المشاورة. فأما حديث ابن عباس فقد قيل إنه لا يكاد يصح لان عمر رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يدعوه في مجلس الشورى مع الكبار من الصحابة لما عرف من فطنته وحسن ذهنه وبصيرته، وقد أشار عليه بأشياء فقبل ذلك واستحسنه، وكان يقول له: غص يا غواص، شنشنة أعرفها من أخزم يعني أنه شبه العباس في رأيه ودهائه، فكيف يستقيم مع هذا أن يقال إنه امتنع من بيان قوله وحجته لعمر مهابة له؟ وإن صح فهذه المهابة إنما كان باعتبار ما عرف من فضل رأي عمر وفقهه فمنعه ذلك من الاستقصاء في المحاجة معه كما يكون من حال الشبان مع ذوي الاسنان من المجتهدين في كل عصر، فإنهم يهابون الكبار فلا يستقصون في المحاجة معهم حسب ما يفعلون مع الاقران، ومتى كان (الناس) في تقية من عمر في إظهار الحق مع قوله عليه الصلاة والسلام: أينما دار الحق فعمر معه وكان ألين وأسرع قبولا للحق من غيره حتى كان يشاورهم ويقول لهم: لا خير فيكم إذا لم تقولوا لنا، ولا خير فينا إذا لم نسمع منكم، رحم الله امرأ أهدى إلى أخيه عيوبه. فمع طلب البيان منه بهذه الصفة لا يتوهم أن يهابه أحد فلا يظهر عنده حكم الشرع مهابة له. وحديث ذي اليدين رضي الله عنه قلنا مجرد السكوت عن النكير لا يكون دليل الموافقة عندنا، ولكن مع ترك إظهار ما هو الحق عنده بعد مضي مدة المهلة، ولم توجد هذه الصفة في حديث ذي اليدين، فإنه كما أظهر مقالته سأل رسول الله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكان الكلام في الصلاة يومئذ مباحا فما كان هناك ما يمنعهم من الكلام، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعرف ما عندهم من خلاف له أو وفاق، وذلك مستقيم قبل أن يحصل المقصود بالسكوت وإن كان يحصل ذلك بسكوتهم عن إظهار الخلاف أن لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتمام الصلاة ولم يستنطقهم. وكذلك ما قاله الكرخي رحمه الله فهو خارج على هذا الحرف، لانا لا نجعل مجرد السكوت عن النكير دليل الموافقة بل ترك إظهار ما عنده مما هو مخالف لما انتشر، وهذا واجب على كل مجتهد من علماء العصر، لا يباح له السكوت عنه بعد ما انتشر قول بخلاف قوله وبلغه ذلك، فإنما يحمل السكوت على الوجه الذي يحل له شرعا، ولهذا اعتبرنا في ثبوت الاجماع بهذا الطريق أن يسكت بعد عرض الفتوى عليه، لانه ما لم يبلغه قول هو مخالف لما عنده وما لم يسأل عنه لا يلزمه البيان، وإنما يكون ذلك بعد عرض الفتوى عليه وبعد مضي مدة المهلة أيضا لانه يحتاج إلى التروي وإلى رد الحادثة إلى الاشباه ليميز الاشبه بالحادثة من بين الاشباه برأيه، ولا يتأتى ذلك إلا بمدة، فإذا مضت المدة ولم يظهر خلاف ما بلغه كان ذلك دليلا على الوفاق باعتبار العادة. فإن قيل: كان ينبغي أن لا تنتهي هذه المدة إلا بموته لان الإنسان قد يكون متفكرا في شئ مدة عمره فلا يستقر فيه رأيه على شئ، وقد يرى رأيا في شئ ثم يظهر له رأي آخر فيرجع عن الاول، فعلى هذا مدة التروي لا تنتهي إلا بموته. قلنا: لا كذلك بل إذا مضى من المدة ما يتمكن فيه من النظر والاجتهاد فعليه إظهار ما تبين له باجتهاده من توقف في الجواب أو خلاف أو وفاق لا يحل له السكوت عن الاظهار إلا عند الموافقة، وبعدما ثبت الاجماع بهذا الطريق فليس له أن يرجع عنه برأي يعرض له، لان الاجماع موجب للعلم قطعا بمنزلة النص فكما لا يجوز ترك العمل بالنص باعتبار رأي يعترض له لا يجوز مخالفة الاجماع برأي يعترض له بعدما انعقد الاجماع بدليله. وكذلك إن لم يعرض عليه الفتوى ولكن اشتهر الفتوى في الناس على وجه يعلم أنه بلغ ذلك الساكتين من علماء العصر فإن ذلك يقوم مقام العرض عليهم لانه يجب عليهم إظهار الخلاف الذي عندهم إن كانوا يعتقدون خلاف ذلك على وجه ينتشر هذا الخلاف منهم كما انتشر القول الاول، ليكون الثاني معارضا للاول، ولو أظهروا ذلك لانتشر، فسكوتهم عن الاظهار الثابت بدليل عدم الانتشار دليل على الموافقة. بهذا الطريق أثبتنا كون القرآن معجزا، لان العرب ما عارضوا بمثله ولو فعلوا لانتشر ذلك، وعجزهم عن المعارضة بعد التحدي دليل على أنه معجز. فإن قيل: فقد اشتهر فتوى الناس بجواز المزارعة بعد أبي حنيفة قولا وفعلا مع سكوت أصحاب أبي حنيفة عن النكير ولم يكن ذلك دليل الموافقة. قلنا: كما انتشر ذلك فقد انتشر أيضا الخلاف من أصحاب أبي حنيفة لمن أجاز المزارعة محاجة ومناظرة، وإنما تركوا التشنيع على من يباشر ذلك لانه ظهر عند الناس نوع رجحان لقول من أجازها فأخذوا بذلك، وذلك يمنع القائلين بفسادها من أن يظهروا منع الناس من ذلك لعلمهم أن الناس لا يمتنعون باعتبار ما ظهر لهم، بمنزلة القاضي إذا قضى في فصل مجتهد فيه فإنه لا يجب على المجتهد الذي يعتقد خلافه أن يظهر للناس خطأ القاضي، لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله، ولاعتقاده أن قضاء القاضي بما قضى به نافذ وأن ذلك الجانب ترجح بالقضاء، فترك النكير على من يباشر المزارعة بهذه المثابة. يحقق ما قلنا إن من عادة المتشاورين من العوام في شئ يهمهم من أمر الدنيا ويتعلق به بعض مصالحهم أن البعض إذا أظهر فيه رأيا وعند البعض خلاف ذلك فإنهم لا يمتنعون من إظهار ما عندهم إلا نادرا ولا يبنى الحكم على النادر، فإذا كان هذا في أمر الدنيا مع أن السكوت عن الاظهار يحل فيه شرعا فلان يكون أمر الدين وما يرجع إلى إظهار حكم الله تعالى بهذه الصفة حتى يكون السكوت فيه دليل الوفاق كان أولى، فكذلك العادة من حال من يسمع ما هو مستبعد عنه أن لا يمتنع من إظهار النكير عنده، بل يكون ذلك جل همه، ألا ترى أنه لو أخبر مخبر أن الخطيب يوم الجمعة لما صعد المنبر رماه إنسان بسهم فقتله، وسمع ذلك منه قوم شهدوا الجمعة ولم يعرفوا من ذلك شيئا، فإنه لا يكون في همتهم شئ أسبق من إظهار الانكار عليه، وقد بينا أن ما عليه العادة الظاهرة لا يجوز تركه في الأحكام، فتبين باعتبار هذه العادة أن السكوت دليل الموافقة، ونحن نعلم أنه قد كان عند الصحابة أن إجماعهم حجة موجبة للعلم قطعا، فإذا علم الساكت هذا يفترض عليه بيان ما عنده ليتحقق الخلاف ويخرج ما اشتهر من أن يكون حكم الحادثة قطعا، والسكوت إن لم يدل على الموافقة فلا إشكال أنه لا يدل على الخلاف. ومن هذا الجنس ما إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل محصورة، فإن المذهب عندنا أن هذا يكون دليل الاجماع منهم على أنه لا قول في هذه الحادثة سوى هذه الاقاويل حتى ليس لاحد أن يحدث فيه قولا آخر برأيه. وعند بعضهم هذا من باب السكوت الذي هو محتمل أيضا فكما لا يدل على نفي الخلاف لا يدل على نفي قول آخر في الحادثة فإن ذلك نوع تعيين ولا يثبت بالمحتمل. ولكنا نقول: قد بينا أنهم إذا اختلفوا على أقاويل فنحن نعلم أن الحق لا يعدو أقاويلهم، وهذا بمنزلة التنصيص منهم على أن ما هو الحق حقيقة في هذه الاقاويل، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وكذلك هذا الحكم في اختلاف بين أهل كل عصر إلا على قول بعض مشايخنا، فإنهم يقولون هذا في أقاويل الصحابة خاصة لما لهم من الفضل والسابقة، ولكن المعنى الذي أشرنا إليه يوجب المساواة، وعلى هذا قالوا فيما ظهر من بعض الخلفاء عن الصحابة أنه قال في خطبته على المنبر، ولم يظهر من أحد منهم خلاف لذلك، فإن ذلك إجماع منهم بهذا الطريق. وقد قال بعض من لا يعبأ بقوله: الاجماع الموجب للعلم قطعا لا يكون إلا في مثل ما اتفق عليه الناس من موضع الكعبة وموضع الصفا والمروة وما أشبه ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإنه يقال لهذا القائل: بأي طريق عرفت إجماع المسلمين على هذا؟ بطريق سماعك نصا من كل واحد من آحادهم؟ فإن قال نعم ظهر للناس كذبه، وإن قال لا ولكن بتنصيص البعض وسكوت الباقين عن إظهار الخلاف، فنقول كما ثبت بهذا الطريق الاجماع منهم على هذه الاشياء التي لا يشك فيها أحد فكذلك ثبت الاجماع منهم بهذا الطريق في الأحكام الشرعية.
زعم بعض الناس أن الاجماع الموجب للعلم لا يكون إلا باتفاق فرق الامة أهل الحق وأهل الضلالة جميعا، لان الحجة إجماع الامة ومطلق اسم الامة يتناول الكل. فأما المذهب عندنا أن الحجة اتفاق كل عالم مجتهد ممن هو غير منسوب إلى هوى ولا معلن بفسق في كل عصر، لان حكم الاجماع إنما يثبت باعتبار وصف لا يثبت إلا بهذه المعاني وذلك صفة الوساطة كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وهو عبارة عن الخيار العدول المرضيين، وصفة الشهادة بقوله: {لتكونوا شهداء على الناس} فلا بد من اعتبار الاهلية لاداء الشهادة، وصفة الأمر بالمعروف، وذلك يشير إلى فرضية الاتباع فيما يأمرون به وينهون عنه وإنما يفترض اتباع العدل المرضي فيما يأمر به، وثبوته بطريق الكرامة على الدين والمستحق للكرامات مطلقا من كان بهذه الصفة. فأما أهل الاهواء فمن يكفر في هواه فاسم الامة لا يتناوله مطلقا ولا هو مستحق للكرامة الثابتة للمؤمنين، ومن يضلل في هواه إذا كان يدعو الناس إلى ما يعتقده فهو يتعصب لذلك على وجه يخرج به إلى صفة السفه والمجون فيكون متهما في أمر الدين لا معتبر بقوله في إجماع الامة، ولهذا لم يعتبر خلاف الروافض في إمامة أبي بكر، ولا خلاف الخوارج في خلافة علي. فإن كان لا يدعو الناس إلى هواه ولكنه مشهور به، فقد قال بعض مشايخنا فيما يضلل هو فيه لا معتبر بقوله، لانه إنما يضلل لمخالفته نصا موجبا للعلم فكل قول كان بخلاف النص فهو باطل، وفيما سوى ذلك يعتبر قوله، ولا يثبت الاجماع مع مخالفته لانه من أهل الشهادة، ولهذا كان مقبول الشهادة في الأحكام. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه إن كان متهما بالهوى ولكنه غير مظهر له فالجواب هكذا، فأما إذا كان مظهرا لهواه فإنه لا يعتد بقوله في الاجماع، لان المعنى الذي لاجله قبلت شهادته لا يوجد هنا فإنها تقبل لانتفاء تهمة الكذب، على ما قال محمد رحمه الله: قوم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا لا يتهمون بالكذب في الشهادة. وهذا يدل على أنهم لا يؤتمنون في أحكام الشرع ولا يعتبر قولهم فيه، فإن الخوارج هم الذين يقولون إن الذنب نفسه كفر وقد أكفروا أكثر الصحابة الذين عليهم مدار أحكام الشرع، وإنما عرفناها بنقلهم فكيف يعتمد قول هؤلاء في أحكام الشرع، وأدنى ما فيه أنهم لا يتعلمون ذلك، إذا كانوا يعتقدون كفر الناقلين. ولا معتبر بقول الجهال في الأحكام، فأما من كان محقا في اعتقاده ولكنه فاسق في تعاطيه فالعراقيون يقولون لا يعتد بقوله في الاجماع أيضا، لانه ليس بأهل لاداء الشهادة، ولان التوقف في قوله واجب بالنص وذلك ينفي وجوب الاتباع. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه إذا كان معلنا لفسقه فكذلك الجواب، لانه لما لم يتحرز من إعلان ما يعتقده باطلا فكذلك لا يتحرز من إعلان قول يعتقد بطلانه باطنا، فأما إذا لم يكن مظهرا للفسق فإنه يعتد بقوله في الاجماع وإن علم فسقه حتى ترد شهادته، لانه لا يخرج بهذا من الاهلية للشهادة أصلا ولا من الاهلية للكرامة بسبب الدين، ألا ترى أنا نقطع القول لمن يموت مؤمنا مصرا على فسقه أنه لا يخلد في النار، فإذا كان هو أهلا للكرامة بالجنة في الآخرة فكذلك في الدنيا باعتبار قوله في الاجماع. فأما كونه عالما مجتهدا فهو معتبر في الحكم الذي يختص بمعرفته والحاجة إليه العلماء، وعلى هذا قلنا: من يكون متكلما غير عالم بأصول الفقه والادلة الشرعية في الأحكام لا يعتد بقوله في الاجماع. هكذا نقل عن الكرخي. وكذلك من يكون محدثا لا بصر له في وجوه الرأي وطرق المقاييس الشرعية لا يعتد بقوله في الاجماع، لان هذا فيما يبني عليه حكم الشرع بمنزلة العامي ولا يعتد بقول العامي في إجماع علماء العصر، لانه لا هداية له في الحكم المحتاج إلى معرفته، فهو بمنزلة المجنون حتى لا يعتد بمخالفته. ثم قال بعض العلماء الذين هم بالصفة التي قلنا من أهل العصر: ما لم يبلغوا حدا لا يتوهم عليهم التواطؤ على الباطل لا يثبت الاجماع الموجب للعلم باتفاقهم، ألا ترى أن حكم التواتر لا يثبت بخبرهم ما لم يبلغوا هذا الحد، فكذلك حكم الاجماع بقولهم، لان بكل واحد منهما يثبت علم اليقين. والاصح عندنا أنهم إذا كانوا جماعة واتفقوا قولا أو فتوى من البعض مع سكوت الباقين فإنه ينعقد الاجماع به وإن لم يبلغوا حد التواتر، بخلاف الخبر فإن ذلك محتمل للصدق والكذب فلا بد من مراعاة معنى ينتفي به تهمة الكذب بكثرتهم، ألا ترى أن صفة العدالة لا تعتبر هناك، وهذا إظهار حكم ابتداء ليس فيه من معنى احتمال تهمة الكذب شئ إنما فيه توهم الخطأ، فإذا كانوا جماعة فالامن عن ذلك ثابت شرعا كرامة لهم بسبب الدين وصفة العدالة على ما قررنا. فإن قيل لا يؤمن على هؤلاء إعلان الفسق أو الضلالة أو الردة مثلا بعدما انعقد الاجماع منهم، فكيف يؤمن الخطأ باعتبار اجتماعهم؟ وعن هذا الكلام جوابان لمشايخنا رحمهم الله: أحدهما أنا لا نجوز هذا على جماعتهم بعدما كان إجماعهم موجبا للعلم في حكم الشرع فإن الله تعالى يعصمهم من ذلك، لان إجماعهم صار بمنزلة النص عن صاحب الشريعة، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن هذا نقطع القول به، لان قوله موجب للعلم، فكذلك جماعة العلماء إذا ثبت لهم هذه الدرجة، وهو أن قولهم موجب للعلم كرامة بسبب الدين. والثاني أنه وإن تحقق هذا منهم فإن الله تعالى يقيم آخرين مقامهم ليكون الحكم ثابتا بإجماعهم، لان الدين محفوظ إلى قيام الساعة على ما قال رسول الله عليه السلام: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله فما يعترض على الاولين لا يؤثر في حكم الاجماع لقيام أمثالهم مقامهم، بمنزلة موتهم. وقال بعض العلماء: الاجماع الموجب للعلم لا يكون إلا بإجماع الصحابة الذين كانوا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانهم صحبوه وسمعوا منه علم التنزيل والتأويل، وأثنى عليهم في آثار معروفة فهم المختصون بهذه الكرامة. وهذا ضعيف عندنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما أثنى عليهم فقد أثنى على من بعدهم فقال: خير الناس قرني الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ففي هذا بيان أن أهل كل عصر يقومون مقامهم في صفة الخيرية إذا كانوا على مثل اعتقادهم، والمعاني التي بيناها لاثبات هذا الحكم بها من صفة الوساطة والشهادة والأمر بالمعروف لا يختص بزمان ولا بقوم، وثبوت هذا الحكم بالاجماع لتحقيق بقاء حكم الشرع إلى قيام الساعة وذلك لا يتم ما لم يجعل إجماع أهل كل عصر حجة كإجماع الصحابة رضي الله عنهم. فإن قيل: ف أبو حنيفة رحمه الله قال بخلاف هذا لانه قال: ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم، وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم. قلنا: إنما قال ذلك لانه كان من جملة التابعين فإنه رأى أربعة من الصحابة: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو الطفيل، و عبد الله بن حارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنهم، وقد كان ممن يجتهد في عهد التابعين ويعلم الناس حتى ناظر الشعبي في مسألة النذر بالمعصية فما كان ينعقد إجماعهم بدون قوله فلهذا قال ذلك لا لانه كان لا يرى إجماع من بعد الصحابة حجة. ومن الناس من يقول: الاجماع الذي هو حجة إجماع أهل المدينة خاصة لانهم أهل حضرة الرسول وقد بين رسول الله عليه السلام خصوصية تلك البقعة في آثار فقال: إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها وقال عليه السلام: إن الدجال لا يدخلها وقال عليه السلام: من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء وقال عليه السلام: إن المدينة تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد ولكن ما قررنا من المعاني لا يختص بمكان دون مكان. ثم إن كان مراد القائل أهلها الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينازع فيه أحد، وإن كان المراد أهلها في كل عصر فهو قول باطل، لانه ليس في بقعة من البقاع اليوم في دار الإسلام قوم هم أقل علما وأظهر جهلا وأبعد عن أسباب الخير من الذين هم بالمدينة فكيف يستجاز القول بأنه لا إجماع في أحكام الدين إلا إجماعهم؟ والمراد بالآثار حال المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الهجرة فريضة كان المسلمون يجتمعون فيها وأهل الخبث والردة لا يقرون فيها، وقد تكون البقعة محروسة وإن كان من يسكنها على غير الحق، ألا ترى أن مكة كانت محروسة عام الفيل مع أن أهلها كانوا مشركين يومئذ. ومن الناس من يقول لا إجماع إلا لعترة الرسول لانهم المخصوصون بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسباب العز، قال عليه السلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي وقال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. ولكنا نقول: أنواع الكرامة لاهل البيت متفق عليه، ولكن حكم الاجماع الموجب للعلم باعتبار نصوص ومعاني لا يختص ذلك بأهل البيت، والنسب ليس من ذلك في شئ فالتخصيص به يكون زيادة، كيف وقد قال تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} فكل من كان منيبا إلى ربه فهو داخل في هذه الآية، وهو مراد بقوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} كما ذكرنا من الاستدلال به.
زعم بعض الناس أن انقراض العصر شرط لثبوت حكم الاجماع. وهو قول الشافعي رحمه الله أيضا، لان قبل انقراض العصر إذا بدا لبعضهم رأي خلاف رأي الجماعة فإن ما ظهر له في الانتهاء بمنزلة الموجود في الابتداء ولو كان موجودا لم ينعقد إجماعهم بدون قوله، فكذلك إذا اعترض له ذلك، ولا يقع الامن عن هذا إلا بانقراض العصر على ذلك الاجماع، ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسوي بين الناس في العطايا وكانوا لا يخالفونه في ذلك، ثم فضل علي رضي الله عنه في العطايا في خلافته ولا يظن به مخالفة الجماعة، فعرفنا أن بدون انقراض العصر لا يثبت حكم الاجماع، وقال علي رضي الله عنه: اتفق رأيي ورأي عمر على أن أمهات الاولاد لا يبعن، وأنهن أحرار عن دبر من الموالي، ثم رأيت أن أرقهن. فلو ثبت الاجماع قبل انقراض العصر لما استجاز خلاف الاجماع برأيه. وأما عندنا انقراض العصر ليس بشرط، لان الاجماع لما انعقد باعتبار اجتماع معاني الذي قلنا كان الثابت به كالثابت بالنص، وكما أن الثابت بالنص لا يختص بوقت دون وقت فكذلك الثابت بالاجماع، ولو شرطنا انقراض العصر لم يثبت الاجماع أبدا لان بعض التابعين في عصر الصحابة كان يزاحمهم في الفتوى فيتوهم أن يبدو له رأي بعد أن لم يبق أحد من الصحابة، وهكذا في القرن الثاني والثالث فيؤدي إلى سد باب حكم الاجماع (أصلا) وهذا باطل. ولكنا نقول: بعد ما ثبت الاجماع موجبا للعلم باتفاقهم فليس لاحد أن يظهر خلاف ذلك برأيه لا من أهل ذلك العصر ولا من غيرهم، كما لا يكون له أن يخالف النص برأيه وهذا بخلاف رأيه قبل انعقاد الاجماع، لان الدليل الموجب للعلم لم يتقرر هناك فكان قوله معتبرا في منع انعقاد الاجماع. وأما حديث التسوية في العطاء فقد كان مختلفا في الابتداء على ما روي عن عمر رضي الله عنه قال لابي بكر: لا تجعل من لا سابقة له في الإسلام كمن له سابقة. فقال أبو بكر: هم إنما عملوا لله فأجرهم على الله. فتبين أن هذا الفصل كان مختلفا في الابتداء فلهذا مال علي رضي الله عنه إلى التفضيل. وحديث أمهات الاولاد فالمروي أن عليا رضي الله عنه قال: ثم رأيت أن أرقهن. يعني أن لا أعتقهن بموت المولى حتى يكون الوارث أو الوصي هو المعتق لها كما دل عليه ظاهر بعض الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد جواز بيعهن إذ ليس من ضرورة الرق جواز البيع لا محالة. وكان الكرخي رحمه الله يقول: شرط الاجماع أن يجتمع علماء العصر كلهم على حكم واحد، فأما إذا اجتمع أكثرهم على شئ وخالفهم واحد أو اثنان لم يثبت حكم الاجماع. وهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا، لان النبي عليه السلام قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولانه لا معتبر بالقلة والكثرة في المعنى الذي يبتنى عليه حكم الاجماع، وبالاتفاق لو كان فريق منهم على قول وفريق مثلهم على قول آخر فإنه لا يثبت حكم الاجماع، فكذلك إذا كان أكثرهم على قول ونفر يسير منهم على خلاف ذلك لا يثبت حكم الاجماع. قال رضي الله عنه: والاصح عندي ما أشار إليه أبو بكر الرازي رحمه الله أن الواحد إذا خالف الجماعة فإن سوغوا له ذلك الاجتهاد لا يثبت حكم الاجماع بدون قوله، بمنزلة خلاف ابن عباس للصحابة في زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للام ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد وأنكروا (عليه) قوله فإنه يثبت حكم الاجماع بدون قوله، بمنزلة قول ابن عباس في حل التفاضل في أموال الربا، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يسوغوا له هذا الاجتهاد حتى روي أنه رجع إلى قولهم فكان الاجماع ثابتا بدون قوله، ولهذا قال محمد رحمه الله في الاملاء: لو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لم ينفذ قضاؤه لانه مخالف للاجماع. والدليل على صحة هذا القول قوله عليه السلام: يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار. وقال عليه السلام: عليكم بالسواد الاعظم يعني ما عليه عامة المؤمنين، ففي هذا إشارة إلى أن قول الواحد لا يعارض قول الجماعة، ولانا لو شرطنا هذا أدى إلى أن لا ينعقد الاجماع أبدا لانه لا بد أن يكون في علماء العصر واحد أو اثنان ممن لم يسمع ذلك الفتوى أصلا وممن يرى خلاف ذلك. وإنما كان الاجماع حجة باعتبار ظهور وجه الصواب فيه بالاجتماع عليه، وإنما يظهر هذا في قول الجماعة لا في قول الواحد، ألا ترى أن قول الواحد لا يكون موجبا للعلم وإن لم يكن بمقابلته جماعة يخالفونه وقول الجماعة موجب للعلم إذا لم يكن هناك واحد يخالفهم، فكذلك مع وجود هذا الواحد، لان قوله لا يعارض قولهم، بخلاف ما إذا كان على كل قول جماعة فهناك المعارضة تتحقق، والمراد من قوله عليه السلام: بأيهم اقتديتم اهتديتم إذا لم يكن هناك دليل موجبا للعلم، بخلاف قول من يهتدي به، ألا ترى أنه إذا كان هناك نص بخلاف قول الواحد لم يجز اتباعه ولم يكن هذا الحديث متناولا له. وحكي عن أبي حازم القاضي رحمه الله أن الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا على شئ فذلك إجماع موجب للعلم ولا يعتد بخلاف من خالفهم في ذلك لقوله عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولهذا لم يعتبر خلاف زيد للخلفاء في توريث ذوي الارحام، وأمر المعتصم برد الاموال التي اجتمعت في بيت المال مما أخذت من تركات فيها ذوو الارحام فأنكر ذلك عليه أبو سعيد البردعي رحمه الله وقال: هذا شئ أمضى على قول زيد، فقال: لا أعتد خلاف زيد في مقابلة قول الخلفاء الراشدين، وقد قضيت بذلك فليس لاحد أن يبطله بعدي.
ذكر هشام عن محمد رحمهما الله: الفقه أربعة، ما في القرآن وما أشبهه، وما جاءت به السنة وما أشبهها، وما جاء عن الصحابة وما أشبهه، وما رآه المسلمون حسنا وما أشبهه. ففي هذا بيان أن ما أجمع عليه الصحابة فهو بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة، في كونه مقطوعا به حتى يكفر جاحده. وهذا أقوى ما يكون من الاجماع، ففي الصحابة أهل المدينة وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين من يعتد بقولهم إن هذا الاجماع حجة موجبة للعلم قطعا فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو بخبر متواتر. فإن قيل: كيف يستقيم هذا وتوهم الخطأ لم ينعدم بإجماعهم أصلا، فإن رأيهم لا يكون فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقال تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} الآية، ففي هذا إشارة إلى أنه قد كان وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ في بعض ما فعل به برأيه، فعرفنا أنه لا يؤمن الخطأ في رأي دون رأيه أصلا؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن التقرير على الخطأ خصوصا في إظهار أحكام الدين، ولهذا كان قوله موجبا علم اليقين، واتباعه فرض على الامة، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وسنقرر هذا الكلام في موضعه (إن شاء الله تعالى) فإذا ثبت هذا فيما ثبت بتنصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك فيما يثبت بإجماع الصحابة، فإنه لا يبقى فيه توهم الخطأ بعد إجماعهم حتى يكفر جاحده. وقوله وما أشبهه المراد منه أن الصحابة إذا اختلفوا في حادثة على أقاويل فإن ذلك اتفاق منهم على أنه لا قول سوى ما ذكروا فيها وأن الحق لا يعدو أقاويلهم حتى ليس لاحد بعدهم أن يخترع قولا آخر برأيه، ولهذا قلنا إن الصحابة لما اختلفوا في مقدار جعل الآبق على أقاويل كان ذلك اتفاقا منهم على أن الحق لا يعدو أقاويلهم، فليس لاحد بعدهم أن يخترع فيه قولا آخر برأيه، إلا أن هذا الاجماع دون الاول في الحكم لان ثبوته بطريق الاستدلال وأصله مسكوت عنه فلا يكفر جاحده مثل هذا الاجماع. فإن قيل: أليس أنكم قلتم فيمن قال لامرأته اختاري فإن اختارت نفسها وقعت تطليقة بائنة، وإن اختارت زوجها لم يقع شئ، وقد كانت الصحابة فيها على قولين سوى هذا ثم اخترعتم قولا ثالثا برأيكم؟ قلنا: ما فعلنا ذلك فإن الكرخي رحمه الله ذكر مذهبنا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه فليس ذلك بخروج عن أقاويلهم، وفي قوله ما رآه المسلمون حسنا بيان أن إجماع أهل كل عصر حجة، ولكن هذا في الحكم دون ما سبق، وهو بمنزلة خبر مشهور حتى لا يكفر جاحده، ولكن يجوز النسخ به لان بين من يعتد بقولهم من العلماء اختلافا فيه، ودون هذا بدرجة أيضا الاجماع بعد الاختلاف في الحادثة، إذا كانت مختلفا فيها في عصر ثم اتفق أهل عصر آخر بعدهم على أحد القولين، فقد قال بعض العلماء: هذا لا يكون إجماعا، وعندنا هو إجماع ولكنه بمنزلة خبر الواحد في كونه موجبا للعمل غير موجب للعلم. قال رضي الله عنه: وكان شيخنا (الإمام الحلواني رحمه الله) يقول: هذا على قول محمد رحمه الله يكون إجماعا، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يكون إجماعا، فإن الرواية محفوظة عن محمد رحمه الله أن قضاء القاضي بجواز بيع أم الولد باطل، وقد كان هذا مختلفا فيه بين الصحابة ثم اتفق من بعدهم على أنه لا يجوز بيعها فكان هذا قضاء بخلاف الاجماع عند محمد، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينفذ قضاء القاضي به لشبهة الاختلاف في الصدر الاول، ولا يثبت الاجماع مع وجود الاختلاف في الصدر الاول. قال رضي الله عنه: والاوجه عندي أن هذا إجماع عند أصحابنا جميعا للدليل الذي دل على أن إجماع أهل كل عصر إجماع معتبر، وإنما ينفذ قضاء القاضي بجواز بيعها لشبهة الاختلاف في أن مثل هذا هل يكون إجماعا؟ فعلى اعتبار هذه الشبهة يكون قضاؤه في مجتهد فيه، فلهذا نفذه أبو حنيفة رحمه الله. وجه قول الفريق الاول أن الحجة إجماع الامة والذي كان مخالفا في الصدر الاول من الامة وبموته لا يبطل قوله فلا يثبت الاجماع بدون قوله، ألا ترى أنه لو بقي حيا إلى هذا الوقت لم ينعقد الاجماع بدون قوله، فكذلك إذا كان ميتا، لان اعتبار قوله لدليله لا لحياته، ولانه لو ثبت الاجماع بعده لوجب القول بتضليله، ولا نظن أحدا يقول هذا لابن عباس رضي الله عنهما في زوج وأبوين وإن أجمعوا بعده على خلاف قوله، ولا لابن مسعود رضي الله عنه في تقديم ذوي الارحام على مولى العتاقة وإن أجمعوا بعده على خلاف قوله، وقد قلتم إذا قال لامرأته أنت خلية ونوى ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام لا يلزمه الحد، لان عمر رضي الله عنه كان يراها تطليقة رجعية وقد أجمعوا بعده على خلاف ذلك ولهذا صح نية الثلاث فيه، فدل أن الاجماع لا يثبت بمثل هذا. وجه قولنا إن المعتبر إجماع أهل كل عصر لما بينا أن المقصود كون أحكام الشرع محفوظة وأن ثبوت هذا الحكم باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك يختص به الاحياء من أهل العصر دون من مات قبلهم فكما أن لا يعتبر توهم قول ممن يأتي بعدهم بخلاف قولهم في منع ثبوت حكم الاجماع فكذلك لا يعتبر قول واحد كان قبلهم إذا اجتمعوا في عصرهم على خلافه، ويجعل هذا الاجماع بمنزلة التقدير من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لو عرض عليه الفتوى، ومعلوم أنه لو عرض عليه فقال: الصواب هذا فإنه تثبت الحجة به ولا يضلل القائل بخلافه قبل هذا التنصيص، فكذلك هنا لا يضلل القائل بخلافه قبل هذا الاجماع، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعدما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة حتى أتاهم آت فأخبرهم واستداروا كهيئتهم وجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم، لان ذلك كان قبل العلم بالنص الناسخ، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول بإباحة المتعة ثم رجع إلى قول الصحابة، ويثبت الاجماع برجوعه لا محالة ولم يكن ذلك موجبا تضليله فيما كان يفتي به قبل هذا. فأما ما إذا قال لامرأته أنت خلية فإنما أسقطنا الحد هناك بالوطئ لا لان اتفاق أهل العصر بعد الخلاف ليس بإجماع ولكن للشبهة المتمكنة في هذا الاجماع بسبب اختلاف العلماء، فإن الحد يسقط بأدنى شبهة، والله أعلم بالحقيقة. باب: الكلام في قبول أخبار الآحاد والعمل بها قال فقهاء الامصار رحمهم الله: خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين ولا يثبت به علم اليقين. وقال بعض من لا يعتد بقوله: خبر الواحد لا يكون حجة في الدين أصلا. وقال بعض أهل الحديث: يثبت بخبر الواحد علم اليقين، منهم من اعتبر فيه عدد الشهادة ليكون حجة، ومنهم من اعتبر أقصى عدد الشهادة وهو الاربعة. فأما الفريق الاول استدلوا بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وإذا كان خبر الواحد لا يوجب العلم لم يجز اتباعه والعمل به بهذا الظاهر، وقال تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} وخبر الواحد إذا لم يكن معصوما عن الكذب (محتمل للكذب) والغلط فلا يكون حقا على الاطلاق ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين، وقال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقال تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} ومعنى الصدق في خبر الواحد غير ثابت إلا بطريق الظن، ولان خبر الواحد محتمل للصدق والكذب والنص الذي هو محتمل لا يكون موجبا للعمل بنفسه مع أن كل واحد من المحتملين فيه يجوز أن يكون شرعا، فلان لا يجوز العمل بما هو محتمل للكذب والكذب باطل أصلا كان أولى. ولا يدخل على ما ذكرنا أمور المعاملات، لان الذي يترتب عليها حقوق العباد والعباد يعجزون عن إظهار كل حق لهم بطريق لا يبقى فيه شك وشبهة، فلاجل الضرورة جوزنا الاعتماد فيها على خبر الواحد، ولهذا سقط اعتبار اشتراط العدالة فيه أيضا، فأما هنا الثابت ما هو حق لله، والله موصوف بكمال القدرة يتعالى عن أن يلحقه ضرورة أو عجز عن إظهار حقوقه بما لا يبقى فيه شك وشبهة، فلهذا لا يجعل المحتمل للصدق والكذب حجة فيه. وعلى هذا تخرج الشهادات أيضا فإن القياس فيها أن لا يكون حجة مع بقاء احتمال الكذب تركناه بالنصوص وبالمعنى الذي أشرنا إليه أنها مشروعة لاثبات حقوق العباد، والحاجة إليها تتجدد للعباد في كل وقت وهم يعجزون عن إثبات كل حق لهم بما لا يكون محتملا، ولان القول بما قلتم يؤدي إلى أن يزداد درجة المخبر الذي هو غير معصوم عن الكذب على المخبر المعصوم عن الكذب، يعني من ينزل عليه الوحي، فإن خبره في أول أمره إنما كان واجب القبول باقتران المعجزات به، فمن يقول بأن خبر غيره يكون مقبولا من غير دليل يقترن به فقد زاد درجة هذا المخبر على درجة الرسول، وأي قول أظهر فسادا من هذا ! ولا خلاف أن أصل الدين كالتوحيد وصفات الله وإثبات النبوة لا يكون إلا بطريق يوجب العلم قطعا ولا يكون فيه شك ولا شبهة، فكذلك فيما يكون من أمر الدين. وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} الآية، وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} الآية، ففي هاتين الآيتين نهى لكل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولان أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر بالاظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة ولا فائدة في النهي عن الكتمان، والأمر بالبيان سوى هذا. ولا يدخل عليه الفاسق فإنه داخل في عموم الأمر بالبيان ثم لا يقبل بيانه في الدين، لانه مخصوص من هذا النص بنص آخر وهو ما فيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق، ثم هو مزجور عن اكتساب سبب الفسق مأمور بالتوبة عنه ثم يترتب البيان عليه، فعلى هذا الوجه بيانه يفيد وجوب القول والعمل به، وقال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الآية، والفرقة اسم للثلاثة فصاعدا، فالطائفة من الفرقة بعضها وهو الواحد أو الاثنان، ففي أمر الطائفة بالتفقه والرجوع إلى قومهم للانذار كي يحذروا، تنصيص على أن القبول واجب على السامعين من الطائفة، وأنه يلزمهم الحذر بإنذار الطائفة، وذلك لا يكون إلا بالحجة، ولا يقال الطائفة اسم للجماعة لان المتقدمين اختلفوا في تفسير الطائفة. قال محمد بن كعب: هو اسم للواحد. وقال عطاء: اسم للاثنين. وقال الزهري: لثلاثة. وقال الحسن: لعشرة، فيكون هذا اتفاقا منهم أن الاسم يحتمل أن يتناول كل واحد من هذه الاعداد، ولم يقل أحد بالزيادة على العشرة، ومعلوم أن بخبر العشرة لا ينتفي توهم الكذب ولا يخرج من أن يكون محتملا، فعرفنا أنه لا يشترط لوجوب العمل كون المخبر بحيث لا يبقى في خبره تهمة الكذب. ثم الاصح ما قاله محمد بن كعب، فقد قال قتادة في قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة} الواحد فصاعدا، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} نقل في سبب النزول أنهما كانا رجلين، وفي سياق الآية ما يدل عليه فإنه قال تعالى: {فأصلحوا بينهما} ولم يقل بينهم، وقال: {فأصلحوا بين أخويكم} فقد سمي الرجلين طائفتين. فإن قيل: هذا بعيد فإن هاء التأنيث لا تلحق بنعت الواحد من الذكور. قلنا: هذا عند ذكر الرجل فأما عند ذكر النعت يصلح للفرد من الذكور والاناث، فللعرب عادة في إلحاق هاء التأنيث به وكتاب الله يشهد به، قال تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ} والمراد الواحد لا من الاناث خاصة بدليل قوله تعالى: {ولو كان ذا قربى}. فإن قيل: هذا خطاب لجميع الطوائف بالانذار وهم يبلغون حد التواتر ويكون خبرهم مستفيضا مشتهرا. قلنا: لا كذلك فالجمع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم كقول القائل: لبس القوم ثيابهم، وفي قوله تعالى: {إذا رجعوا إليهم} ما يدل على ما قلنا، لان الرجوع إنما يتحقق ممن كان خارجا من القوم ثم صار قادما عليهم وإتيان جميع الطوائف إلى كل قوم للانذار لا يكون رجوعا إليهم مع أن هذا لو كان شرطا لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وكلفهم أن يفعلوه، ولو فعلوه لاشتهر ولم ينقل شئ من ذلك في الآثار، والذي يتحقق بهم الاجماع للدوران للانذار لا ينقطع توهم الكذب عن خبرهم لبقاء احتمال التواطؤ بينهم، فكان الاستدلال قائما وإن ساعدناهم على هذا التأويل. فإن قيل: عندنا الراجع إلى كل فريق مأمور بالانذار بما سمعه لقومه، وإن لم يكن عليهم أن يقبلوا ذلك منه، بل المقصود أن يشتهر ذلك وعند الاشتهار تنتفي تهمة الكذب فتصير حجة حينئذ، بمنزلة الشاهد الواحد فإنه مأمور بأداء الشهادة، وإن كان العمل بشهادته لا يجب ما لم يتم العدد بشاهد آخر وتظهر العدالة بالتزكية. قلنا: الشاهد إذا كان وحده فليس عليه أداء الشهادة، لان ذلك لا ينفع المدعي وربما يضر بالشاهد فلو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل لما وجب الانذار بما سمع، ثم لما ثبت بالنص أنه مأمور بالانذار ثبت أنه يجب القبول منه، لانه في هذا بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان مأمورا بالانذار ثم كان قوله ملزما للسامعين، كيف وقد بين الله تعالى حكم القبول والعمل به في إشارة بقوله: {لعلهم يحذرون} أي لكي يحذروا عن الرد والامتناع عن العمل بعد لزوم الحجة إياهم، كما قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} والأمر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة. فدل أن خبر الواحد موجب للعمل، ولان النبي عليه السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقد بلغ الرسالة بلا خلاف ومعلوم يقينا أنه ما أتى كل أحد فبلغه مشافهة، ولكنه بلغ قوما بنفسه، وآخرين برسول أرسل إليهم، وآخرين بكتاب، وكتابه إلى ملوك الآفاق مشهور لا يمكن إنكاره، فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان مبلغا رسالات ربه بهذا الطريق إلى الناس كافة، وقد فتحت البلدان النائية على عهده كاليمن والبحرين وهو ما أتاهم بنفسه ولكنه بعث عاملا إلى كل ناحية ليعلمهم الأحكام، على ما هو سير الملوك اليوم في بعث العمال إلى البلدان لاجل أمور الدنيا، فلو لم يكن خبر الواحد حجة في أمور الدين لما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الذين آمنوا وكانوا بالبعد من حضرته، وكذلك المخدرات في بيوتهن لم يحضرن مجلسه في كل حادثة ولكن أزواجهن كانوا يسمعون أحكام الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرجعون إليهن ويعلمونهن، فلو لم يكن خبر الواحد حجة لكلفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتيان إليه للسماع منه ولو فعل ذلك لاشتهر، ولا يقال إنما اكتفى بذلك لان من بعثه رسول الله معلما إلى قوم لا يقول لهم إلا ما هو حق صدق فكان ذلك كرامة لرسول الله ولا يوجد مثل ذلك في حق غيرهم من المخبرين، لانه لو كان بهذه الصفة لنقل هذا السبب كرامة لهم ولاعقابهم، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خص واحدا من الصحابة بشئ اشتهر ذلك بالنقل، نحو قوله في حنظلة رضي الله عنه إن الملائكة غسلته، وفي جعفر رضي الله عنه إن له جناحين يطير بهما في الجنة. ثم كما أن من بعثه رسول الله عليه السلام خليفته في التبليغ فكل من سمع شيئا في أمر الدين فهو خليفته في التبليغ مأمور من جهته بالبيان كالمبعوث لقوله عليه الصلاة والسلام: ألا فليبلغ الشاهد الغائب ولقوله عليه السلام: نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من يسمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى ما هو أفقه منه فينبغي أن يثبت ترجح جانب الصدق في خبر كل عدل أيضا كرامة لرسول الله عليه السلام. وفي قوله: (فرب حامل فقه) بيان أن ما يخبر به الواحد فقه والفقه في الدين ما يكون حجة، ولانا نعلم أنه عليه السلام كان يأكل الطعام وما كان يزرع بنفسه ليتيقن بصفة الحل فيما يأكله وقد كان مأمورا بأكل الطيب، قال تعالى: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات} وربما كان يهدي إليه على ما روي أن سلمان رضي الله عنه أهدي إليه طبقا من رطب، وأن بريرة رضي الله عنها كانت تهدي إليه، وكان يدعى إلى طعام، فلو لم يكن خبر الواحد حجة للعمل به في حق الله تعالى لما اعتمد ذلك فيما يأكله، ولا يقال: كان يعلم من طريق الوحي حل ما يتناوله لانه ما كان منتظر الوحي عند أكله، ألا ترى أنه تناول لقمة من الشاة المصلية فلما لم يسغها سأل عن شأنها فأخبر بذلك فأمر بالتصدق بها، وتناول لقمة من الشاة المسمومة، فعرفنا أنه ما كان ينتظر الوحي عند كل أكلة. والذي يؤيد ما قلنا حكم الشهادات، فإن الله تعالى أمر القاضي بالقضاء بالشهادة، ومعلوم أن الاحتمال يبقى بعد شهادة شاهدين، فلو كان شرط وجوب العمل بالخبر انتفاء تهمة الكذب من كل وجه لما وجب على القاضي القضاء بالشهادة مع بقاء هذا الاحتمال. فإن قيل: الشهادات لاظهار حقوق العباد وقد بينا أن هذا الشرط غير معتبر فيما هو من حقوق العباد. قلنا: كما يجب القضاء بما هو من حقوق العباد عند أداء الشهادة يجب القضاء بما هو من حقوق الله تعالى كحد الشرب والسرقة والزنا، ثم وجوب القضاء بالشهادة من حقوق الله تعالى حتى إذا امتنع من غير عذر يفسق، وإذا لم ير ذلك أصلا يكفر، إلا أن سببه حق العبد وبه لا يخرج من أن يكون حقا لله تعالى كالزكاة، فإنها تجب حقا لله تعالى بسبب مال هو حق العبد. وقد يترتب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى نحو الأخبار بطهارة الماء ونجاسته، والأخبار بأن هذا الشئ أهداه إليك فلان، وأن فلانا وكلني ببيع هذا الشئ، فإنه يترتب على هذا كله ما هو حق الله تعالى وهو إباحة التناول، فإن الحل والحرمة من حق الله، ولا يظن بأحد أنه لا يرى الاعتماد في مثل هذا على خبر الواحد فإنه يتعذر به على الناس الوصول إلى حوائجهم، ألا ترى أنه وإن أخبره أن العين ملكه ببيعه فمن الجائز أنه غاصب، وإذا ألجأته الضرورة إلى التسليم في هذا يقاس عليه ما سواه. ويتبين به فساد اشتراط انتفاء تهمة الكذب عن الخبر للعمل به فيما هو من حق الله تعالى، وبهذا يتبين خطأ من زعم أن هذا عمل بغير علم، فإنه عندنا عمل بعلم هو ثابت من حيث الظاهر ولكنه غير مقطوع به، وقد سمى الله تعالى مثله علما فقال: {وما شهدنا إلا بما علمنا} وإنما قالوا ذلك سماعا من مخبر أخبرهم به، وقال: {فإن علمتوهن مؤمنات} وإنما قال ذلك باعتبار غالب الرأي واعتماد نوع من الظاهر، فدل على أن مثله علم لا ظن إنما الظن عند خبر الفاسق، ولهذا أمر الله بالتوقف في خبره وبين المعنى فيه بقوله: {أن تصيبوا قوما بجهالة} فيكون ذلك بيانا أن من اعتمد خبر العدل في العمل به يكون مصيبا بعلم لا بجهالة إلا أن ذلك (علم) باعتبار الظاهر لان عدالته ترجح جانب الصدق في خبره، وإذا كان هذا النوع من الظاهر يصلح حجة للقضاء به فلان يصلح حجة للعمل به في أمر الدين كان أولى، لان هذا الحكم أسرع ثبوتا، ألا ترى أن بالقياس يثبت، ومعلوم أن هذا الاحتمال في القياس أظهر، والقياس دون خبر الواحد، ومن لا يجوز العمل بخبر الواحد هنا يفزع إلى القياس، فكيف يستقيم ترك العمل بما هو أقوى لبقاء احتمال فيه والفزع إلى ما هو دونه وهذا الاحتمال فيه أظهر؟ فإن قيل: هذا سهو، فإن الكلام في إثبات الحكم ابتداء والقياس لا يصلح لنصب الحكم ابتداء، وإنما ذلك بالسماع ممن ينزل عليه الوحي وقد كان معصوما عن مثل هذا الاحتمال في خبره، فعرفنا أنه لا يثبت الحكم ابتداء إلا بخبر يضاهي السماع منه، وذلك بأن يبلغ حد التواتر، إلا أن في القضاء تركنا هذا الشرط لضرورة بالناس فإنهم يحتاجون إلى إظهار حقوقهم بالحجة عند القاضي ولا يتمكنون من مثل هذا الخبر في كل حق يجب لبعضهم على بعض. قلنا: رضينا بهذا الكلام ونقول: حاجتنا إلى معرفة أحكام الدين وحقوق الله تعالى علينا لنعمل به مثل حاجة من كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته وكانوا يسمعون منه، ومعلوم أن بعد تطاول الزمان لا يوجد مثل هذا الخبر في كل حكم من أحكام الشرع، فوجب أن يجعل خبر الواحد فيه حجة للعمل باعتبار الظاهر لتحقق الحاجة إليه، كما جعل مثل هذه الحاجة معتبرا في وجوب القضاء على القاضي بالشهادة مع بقاء الاحتمال، مع أنه ليس الطريق ما قالوا في باب القضاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع الخصومة في حقوق العباد ويقضي بالشهادات والايمان، وكان يقول: إنما أنا بشر مثلكم أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فكأنما أقطع له قطعة من النار ومعلوم أن مثل هذه الضرورة ما كان يتحقق في حقه، فقد كان الوحي ينزل عليه ولو كان توهم الكذب في شهادة الشهود يمنع بثبوت العلم في (حق) العمل بشهادتهم لما قضى رسول الله بالشهادة قط، فإنه كان متمكنا من القضاء بعلم وذلك بأن ينتظر نزول الوحي عليه فما كان يجوز له أن يقضي بغير علم، وقد نقل قضاياه مشهورا بالشهادات والايمان فهو دليل على صحة ما قلنا. والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في العمل بخبر الواحد أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تخفى، ذكر محمد رحمه الله بعضها في الاستحسان، وأورد أكثرها عيسى بن أبان رحمه الله مستدلا بجواز العمل بخبر الواحد، ولكنا لم نشتغل بها لشهرتها، ولعلمنا أن الخصوم يتعنتون فيقولون كيف يحتجون على وجوب العمل بخبر الواحد بالآحاد من الأخبار وهو نفس الخلاف، فلهذا اشتغلنا بالاستدلال بما هو شبه المحسوس، فكأن عيسى ابن أبان إنما استدل بها لكونها مشهورة في حيز التواتر، ولان العمل بالقياس جائز فيما لا نص فيه، ثبت ذلك باتفاق الصحابة، وخبر الواحد أقوى من القياس، لان المعمول به وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شبهة فيه وإنما الشبهة في طريق الاتصال به، وفي القياس الشبهة والاحتمال في المعنى المعمول به والطريق فيهما غالب الرأي، فكان جواز العمل بالقياس دليلا على جواز العمل بخبر الواحد بالطريق الاولى. يقرره أن العامي إذا سأل المفتي حادثته فأفتى بشئ يلزمه العمل به، ولو سأله عن اعتقاده في ذلك فأخبر أنه معتقد لما يفتيه به كان عليه أن يعتمد قوله وفيه احتمال السهو والكذب، ولكن باعتبار فقهه يترجح جانب الاصابة، وباعتبار عدالته يترجح جانب الصدق فيه فيجب العمل به، فكذلك فيما يخبر به العدل لان جانب الصدق يترجح بظهور عدالته، وما قالوا إن في هذا إثبات زيادة درجة لخبر غير المعصوم على خبر المعصوم غلط بين، فإن الحاجة إلى ظهور المعجزات لثبوت علم اليقين بنبوته، وليكون خبره موجبا علم اليقين ولا يثبت مثل ذلك بخبر مثل هذا المخبر، ألا ترى أن العمل بخبر المخبر في المعاملات جائز عدلا كان أو فاسقا إذا وقع في قلب السامع أنه صادق، ولا يكون في هذا قولا بزيادة خبره على خبر المعصوم عن الكذب. وأما من قال بأن خبر الواحد يوجب العلم فقد استدل بما روي أن النبي عليه السلام قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: ثم أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة في أموالهم ومراده الاعلام بالأخبار، وأما إذا لم يكن خبر الواحد موجبا للعلم للسامع لا يكون ذلك إعلاما، ولان العمل يجب بخبر الواحد ولا يجب العمل إلا بعلم، قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولان الله تعالى قال في نبأ الفاسق: {أن تصيبوا قوما بجهالة} وضد الجهالة العلم وضد الفسق العدالة، ففي هذا بيان أن العلم إنما لا يقع بخبر الفاسق وأنه يثبت بخبر العدل. ثم قد يثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط نحو عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالابصار في الآخرة، فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم. ولكنا نقول: هذا القائل كأنه خفي عليه الفرق بين سكون النفس وطمأنينة القلب وبين علم اليقين، فإن بقاء احتمال الكذب في خبر غير المعصوم معاين لا يمكن إنكاره ومع الشبهة والاحتمال لا يثبت اليقين وإنما يثبت سكون النفس وطمأنينة القلب بترجح جانب الصدق ببعض الاسباب، وقد بينا فيما سبق أن علم اليقين لا يثبت بالمشهور من الأخبار بهذا المعنى فكيف يثبت بخبر الواحد وطمأنينة القلب نوع علم من حيث الظاهر فهو المراد بقوله: (ثم أعلمهم) ويجوز العمل باعتباره كما يجوز العمل بمثله في باب القبلة عند الاشتباه، وينتفي باعتبار مطلق الجهالة لانه يترجح جانب الصدق بظهور العدالة، بخلاف خبر الفاسق فإنه يتحقق فيه المعارضة من غير أن يترجح أحد الجانبين. فأما الآثار المروية في عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهورة وبعضها آحاد وهي توجب عقد القلب عليه، والابتلاء بعقد القلب على الشئ بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم، فإن ذلك ليس من ضرورات العلم، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} وقال تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} فتبين أنهم تركوا عقد القلب على ثبوته بعد العلم به، وفي هذا بيان أن هذه الآثار لا تنفك عن معنى وجوب العمل بها. ويحكى عن النظام أن خبر الواحد عند اقتران بعض الاسباب به موجب للعلم ضرورة. قال: ألا ترى أن من مر بباب فرأى آثار غسل الميت، وسمع عجوزا تخرج من الدار وهي تقول مات فلان، فإنه يعلم موته ضرورة بهذا الخبر، لاقتران هذا السبب به. قال: وهو علم يحدثه الله تعالى في قلب السامع بمنزلة العلم للسامع بخبر التواتر إذ ليس في التواتر إلا مجموع الآحاد، ويجوز القول بأن الله تعالى يحدثه في قلب بعض السامعين دون البعض كما أنه يحدث الولد ببعض الوطئ دون البعض. وهذا قول باطل، فإن ما يكون ثابتا ضرورة لا يختلف الناس فيه، بمنزلة العلم الواقع بالمعاينة والعلم الواقع بخبر التواتر. ثم في هذا إبطال أحكام الشرع من الرجوع إلى البينات والايمان عند تعارض الدعوة والانكار، والمصير إلى اللعان عند قذف الزوج زوجته فإن القرائن من أبين الاسباب، وكان ينبغي أن يكون خبر الزوج موجبا العلم ضرورة فلا يجوز للقاضي عند ذلك أن يصير إلى اللعان، وكذلك في سائر الخصومات ينبغي أن ينتظر إلى أن يحصل له علم الضرورة بخبر المخبرين فيعمل به، واقتران المعجزات بأخبار الرسل من أقوى الاسباب. ثم العلم الحاصل بالنبوة يكون كسبيا لا ضروريا فكيف يستقيم مع هذا لاحد أن يقول إن بخبر الواحد يثبت العلم الضروري بحال من الاحوال. فإن قيل: فقد قلتم الآن إن من جحد الرسالة فإنما جحد بعد العلم بها، فدل أن العلم الضروري كان ثابتا بالخبر. قلنا: إنما كان ذلك من قوم متعنتين عرفوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته من كتابهم ثم جحدوا عنادا، كما قال تعالى: {وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} ولا يظن أحد أن جميع الكفار كانوا عالمين بذلك ضرورة ثم تواطؤا على الجحود على ذلك، لان في هذا القول نفي العلم بخبر التواتر، فإن ثبوت العلم به باعتبار انتفاء تهمة التواطؤ فكيف يجوز إثبات علم الضروري عند خبر الواحد بطريق يدل على نفي العلم بخبر التواتر، وبمثله يتبين عوار المبطلين، والله ولي المتقين. فأما خبر المخبر بالموت إنما يوجب سكون النفس وطمأنينة القلب، ألا ترى أنه إذا شككه آخر بقوله اختفى صاحب الدار من السلطان فأظهر هذا تشكك فيه، ولو كان الثابت له علما ضروريا لما تشكك فيه بخبر الواحد. وأما من شرط عدد الشهادة استدل فيه بالنصوص الواردة في باب الشهادات، فإن الشرع اعتبر ذلك لثبوت العلم على وجه يجب العمل به، فعرفنا أن بدون ذلك لا يثبت العلم على وجه يجب العمل به في خبر متميل بين الصدق والكذب. والدليل عليه أن أبا بكر رضي الله عنه حين شهد عنده المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام أطعم الجدة السدس قال: ائت بشاهد آخر فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، ولما روى أبو موسى لعمر خبر الاستئذان فقال: ائت بشاهد آخر فشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. وقال علي رضي الله عنه في حديث أبي سنان الاشجعي رضي الله عنه في مهر المثل: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه ! في هذا بيان أنهم كانوا لا يقبلون خبر الواحد وكانوا يعتبرون لطمأنينة القلب عدد الشهادة، كما كانوا يعتبرون لذلك صفة العدالة، ومن بالغ في الاحتياط فقد اعتبر أقصى عدد الشهادة لان ما دون ذلك محتمل، وتمام الرجحان عند انقطاع الاحتمال بحسب الامكان. ولكنا نستدل بقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} ومعلوم أن هذا النعت لكل مؤمن، فهو تنصيص على أن قول كل مؤمن في باب الدين يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وإنما يكون كذلك إذا كان يجب العمل بما يأمر به من المعروف فاشتراط العدد في الأمرين يكون زيادة. وجميع ما ذكرنا حجة على هؤلاء ولا حجة لهم في شئ مما ذكروا، فإن هذه الآثار إنما تكون حجة لهم إذا أثبتوا النقل فيها من اثنين عن اثنين حتى اتصل بهم، لان بدون ذلك لا تقوم الحجة عندهم، ولا يتمكن أحد من إثبات هذا في شئ من أخبار الآحاد. ثم إنما طلب أبو بكر رضي الله عنه شاهدا آخر من المغيرة لانه شك في خبره باعتبار معنى وقف عليه، أو باعتبار أنه أخبر أن هذا القضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بمحضر من الجماعة فأحب أن يستثبت لذلك. وكذلك عمر رضي الله عنه إنما أمر أبا موسى أن يأتي بشاهد آخر لانه أخبر بما تعم به البلوى فيحتاج الخاص والعام إلى معرفته فأحب أن يستثبته، ولو لم يأت بشاهد آخر لكان يقبل حديثه أيضا. وذكر بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أنه لا يقبل حديثه لو لم يأت بشاهد آخر في ذلك الوقت، لان في الرواة يومئذ كثرة فكان لا تتحقق الضرورة في العمل بخبر الواحد ومثله لا يوجد بعد تطاول الزمان. ولكن الاصح هو الاول، وعليه نص محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان فقال: لو لم يأت بشاهد آخر لكان يقبل حديثه أيضا، ألا ترى أنه قبل حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وقبل حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين رجع من الشام، وقبل حديثه أيضا في أخذ الجزية من المجوس ولم يطلب منه شاهدا آخر، وإنما لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس لكونه مخالفا للكتاب والسنة فإن السكنى لها منصوص عليه في قوله: {أسكنوهن من حيث سكنتم} وهي قالت ولم يجعل لي رسول الله عليه السلام نفقة ولا سكنى، وإنما لم يقبل علي رضي الله عنه حديث أبي سنان لمذهب له كان ينفرد به وهو أنه كان لا يقبل رواية الاعراب وكان يحلف الراوي إذا روى له حديثا إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ألا ترى أن ابن مسعود رضي الله عنه لما لم يكن هذا من مذهبه قبل حديث أبي سنان وسر به وباب الشهادات ليس نظير باب الأخبار بالاتفاق، ففي الشهادة كل امرأتين تقومان مقام رجل واحد، وفي الأخبار الرجال والنساء سواء. ولكن نقول: اشتراط العدد في الشهادات عرفناه بالنص من غير أن يعقل فيه معنى، فإن العلم الحاصل بخبر الواحد العدل لا يزداد بانضمام مثله إليه، وانتفاء تهمة الكذب لا يحصل أيضا بنصاب الشهادة، فعرفنا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه والواجب علينا فيه اتباع النص، وباب الأخبار ليس في معناه، ألا ترى أنه لا اختصاص في باب الأخبار بلفظ الشهادة ولا بمجلس القضاء، وأن الشهادات الموجبة للقضاء تختص بذلك. وكذلك حكم الأخبار لا يختلف باختلاف المخبر به من أحكام الدين وتختلف باختلاف المشهود به، فيثبت بعض الأحكام بشهادة النساء مع الرجال ولا يثبت البعض ويثبت البعض بشهادة امرأة واحدة، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة رضي الله عنه حجة تامة. وسنقرر هذا الكلام في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
قال رضي الله عنه: هذه أربعة أقسام: أحدها أحكام الشرع التي هي فروع الدين فيما يحتمل النسخ والتبديل، فإنها واجبة لله تعالى علينا يلزمنا أن ندين بها. وهي نوعان: ما لا يندرئ بالشبهات كالعبادات وغيرها، وخبر الواحد العدل حجة فيها لايجاب العمل من غير اشتراط عدد ولا لفظ بل بأوصاف تشترط في المخبر على ما نبينه، وهذا لان المعتبر فيه رجحان جانب الصدق لا انتفاء احتمال الكذب، وذلك حاصل من غير عدد ولا تعيين لفظ، وليس لزيادة العدد وتعيين اللفظ تأثير في انتفاء تهمة الكذب، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون مثل هذه الأخبار من الواحد لايجاب العمل من غير اشتراط زيادة العدد إلا على سبيل الاحتياط من بعضهم، نحو ما روي أن عليا رضي الله عنه كان يحلف الراوي على ما قال: كنت إذا لم أسمع حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثني به غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: ما أذنب عبد ذنبا ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ثم استغفر ربه إلا غفر له ففي هذا بيان أنه كان يحتاط فيحلف الراوي، وما كان يشترط زيادة العدد ولا تعيين لفظ الشهادة، فلو كان ذلك شرطا لاستوى فيه المتقدمون والمتأخرون كما في الشهادات في الأحكام. وأما ما يندرئ بالشبهات فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في الامالي أن خبر الواحد فيه حجة أيضا، وهو اختيار الجصاص رحمه الله، وكان الكرخي رحمه الله يقول: خبر الواحد فيه لا يكون حجة. وجه القول الاول أن المعتبر في خبر الواحد ليكون حجة ترجح جانب الصدق وعند ذلك يكون العمل به واجبا فيما يندرئ بالشبهات وفيما يثبت بالشبهات كما في البينات، ولو كان مجرد الاحتمال مانعا للعمل فيما يندرئ بالشبهات لم يجز العمل فيها بالبينة. وكذلك يجوز العمل فيها بدلالة النص مع بقاء الاحتمال. ووجه القول الآخر أن في اتصال خبر الواحد بمن يكون قوله حجة موجبة للعلم شبهة، وما يندرئ بالشبهات لا يجوز إثباته بما فيه شبهة، ألا ترى أنه لا يجوز إثباته بالقياس، وإنما جوزنا إثباته بالشهادات بالنص وهو قوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} وما كان ثابتا بالنص بخلاف القياس لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه وخبر الواحد ليس في معنى الشهادة من كل وجه. والقسم الثاني: حقوق العباد التي فيها إلزام محض ويشترك فيها أهل الملل، وهذا لا يثبت بخبر الواحد إلا بشرط العدد، وتعيين لفظ الشهادة، والاهلية، والولاية لانها تبتنى على منازعات متحققة بين الناس بعد التعارض بين الدعوى والانكار، وإنما شرعت مرجحة لاحد الجانبين فلا يصلح نفس الخبر مرجحا للخبر إلا باعتبار زيادة توكيد من لفظ شهادة أو يمين فهما للتوكيد، ألا ترى أن كلمات اللعان شرع فيها لفظ الشهادة واليمين للتوكيد، وزيادة العدد أيضا للتوكيد، وطمأنينة القلب إلى قول المثنى أظهر، إذ الواحد يميل إلى الواحد عادة قلما يتفق الاثنان على الميل إلى الواحد في حادثة واحدة، ولان الخصومات إنما تقع باعتبار الهمم المختلفة للناس، والمصير إلى التزوير والاشتغال بالحيل والاباطيل فيها ظاهر، فجعلها الشرع حجة بشرط زيادة العدد وتعيين لفظ الشهادة تقليلا لمعنى الحيل والتزوير فيها بحسب وسع القضاة. وليس هذا نظير القسم الاول، فإن السامع هناك حاجته إلى الدليل للعمل به لا إلى رفع دليل مانع، وخبر الواحد باعتبار حسن الظن بالراوي دليل صالح لذلك، فأما في المنازعات فالحاجة إلى رفع ما معه من الدليل وهو الانكار الذي هو معارض لدعوى المدعي، فاشتراط الزيادة في الخبر هنا لهذا المعنى. ومن القسم الاول الشهادة على رؤية هلال رمضان إذا كان بالسماء علة، فالثابت به حق الله تعالى على عباده وهو أداء الصوم. ومن القسم الثاني الشهادة على هلال الفطر فالثابت به حق العباد لان في الفطر منفعة لهم وهو ملزم إياهم.. ومن ذلك أيضا الأخبار بالحرمة بسبب الرضاع في ملك النكاح أو ملك اليمين فإنه يبتني على زوال الملك، لان ثبوت الحل لا يكون بدون الملك فانتفاؤه يوجب انتفاء الملك والملك من حقوق العباد، فإن كان الحل والحرمة من حقوق الله تعالى وكذلك الأخبار بالحرمة في الامة فإن حرمة الفرج وإن كان من حق الله تعالى فثبوتها يبتني على زوال الملك الذي هو حق العباد فلا يكون خبر الواحد حجة فيها بدون شرائط الشهادة، بخلاف الخبر بطهارة الماء ونجاسته، والخبر بحل الطعام والشراب وحرمته فإن ذلك من القسم الاول، لان ثبوت الملك ليس من ضرورة ثبوت الحل فيه، وزوال الحل لا يبتنى على زوال الملك فيه ضرورة. ومما اختلفوا فيه التزكية، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما هي من القسم الاول لا يعتبر فيها العدد ولا لفظ الشهادة، لان الثابت بها تقرر الحجة وجواز القضاء وذلك حق الشرع وعند محمد رحمه الله هو نظير القسم الثاني في اشتراط العدد فيها، لانه يتعلق بها ما هو حق العباد وهو استحقاق القضاء للمدعي بحقه. والقسم الثالث: المعاملات التي تجري بين العباد مما لا يتعلق بها اللزوم أصلا، وخبر الواحد فيها حجة إذا كان المخبر مميزا عدلا كان أو غير عدل صبيا كان أو بالغا كافرا كان أو مسلما، وذلك نحو الوكالات والمضاربات والاذن للعبيد في التجارة والشراء من الوكلاء والملاك حتى إذا أخبره صبي مميز أو كافر أو فاسق أن فلانا وكله أو أن مولاه أذن له فوقع في قلبه أنه صادق يجوز له أن يشتغل بالتصرف بناء على خبره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدية الطعام من البر التقي وغيره، وكان يشتري من الكافر أيضا، والمعاملات بين الناس في الاسواق من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ظاهر لا يخفى على واحد منهم لا يشترطون العدالة فيمن يعاملونه، وأنهم يعتمدون خبر كل مميز يخبرهم بذلك لما في اشتراط العدالة فيه من الحرج البين. والفرق بين هذا وبين ما سبق من وجهين: أحدهما أن الضرورة (هنا) تتحقق بالحاجة إلى قبول خبر كل مميز، لان الإنسان قلما يجد العدل ليبعثه إلى غلامه أو وكيله، ولا دليل مع السامع سوى هذا الخبر ولا يتمكن من الرجوع إليه للعمل، وكذلك المتصرف مع الوكيل فإن أقصى ما يمكنه أن يرجع إلى الموكل ولعله غاصب غير مالك أيضا، وللضرورة تأثير في التخفيف ولا يتحقق مثل هذه الضرورة في الأخبار فيما يرجع إلى أحكام الشرع، لان في العدول من الرواة كثرة ويتمكن السامع من الرجوع إلى دليل آخر يعمل به إذا لم يصح الخبر عنده وهو القياس الصحيح. والثاني وهو أن هذه الأخبار غير ملزمة، لان العبد والوكيل يباح لهما الاقدام على التصرف من غير أن يلزمهما ذلك، واشتراط العدالة ليترجح جانب الصدق من الخبر، فيصلح أن يكون ملزما وذلك فيما يتعلق به اللزوم من أحكام الشرع دون ما لا يتعلق به اللزوم من المعاملات. ثم هذه الحالة حالة المسالمة، واشتراط زيادة العدد واللفظ في الشهادة إنما كان باعتبار المنازعة والخصومة فيسقط اعتبار ذلك عند المسالمة. وعلى هذا بنى المسائل في آخر الاستحسان فقال: إذا قال: كان هذا العين لي في يد فلان غصبا فأخذتها منه لم يجز للسامع أن يعتمد خبره لانه في خبره يشير إلى المنازعة. ولو قال تاب من غصبه فرده على جاز أن يعتمد خبره إذا وقع في قلبه أنه صادق لانه يشير إلى المسالمة. وكذلك لو تزوج امرأة فأخبره مخبر بأنها حرمت عليه بسبب عارض من رضاع أو غيره يجوز له أن يعتمد خبره ويتزوج أختها. ولو أخبره أنها كانت محرمة عليه عند العقد لم يقبل خبره لانه ليس في الحرمة الطارئة معنى المنازعة، وفي المقارنة للعقد يتحقق ذلك، فإقدامه على مباشرة العقد تصريح منه بأنها حلال له. وكذلك المرأة إذا أخبرت بأن الزوج طلقها وهو غائب يجوز لها أن تعتمد خبر المخبر وتتزوج بعد انقضاء العدة، بخلاف ما إذا أخبرت أن العقد كان بينهما باطلا في الاصل بمعنى من المعاني. والمسائل على هذا الاصل كثيرة. والقسم الرابع: ما يتعلق به اللزوم من وجه دون وجه من المعاملات، وذلك نحو الحجر على العبد المأذون وعزل الوكيل فإن الحجر نظير الاطلاق، فمن هذا الوجه هو غير ملزم إياه شيئا، ولكنه لو تصرف بعد ثبوت الحجر كان ذلك ملزما إياه العهدة، ففي هذا الخبر معنى اللزوم من هذا الوجه. ثم على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يشترط في هذا الخبر أحد شرطي الشهادة إما العدد أو العدالة، وعند أبي يوسف ومحمد هذا نظير ما سبق، والشرط فيه أن يكون المخبر مميزا عدلا كان أو غير عدل، حتى إذا أخبر فاسق العبد بأن مولاه قد حجر عليه يصير محجورا عندهما اعتبارا للحجر بالاطلاق، فالمعنى الذي ذكرنا فيه موجود هنا، وقياسا للمخبر الفضولي على ما إذا كان رسول المولى. وكذلك إذا أخبر الوكيل بأن الموكل عزله أو أخبرت البكر بأن وليها زوجها فسكتت أو أخبر الشفيع ببيع الدار فسكت عن طلب الشفعة أو أخبر المولى بأن عبده جنى فأعتقه، فأبو حنيفة يقول في هذه الفصول كلها خبر الفاسق غير معتبر إذا نشأ الخبر من عنده لان فيه معنى اللزوم فإنه يلزمه الكف عن التصرف إذا أخبره بالحجر والعزل، ويلزمها النكاح إذا سكتت بعد العلم، والكف عن طلب الشفعة إذا سكت بعد العلم، والدية إذا أعتق بعد العلم بالجناية. وخبر الفاسق لا يكون ملزما لان التوقف في خبر الفاسق ثابت بالنص ومن ضرورته أن لا يكون ملزما، بخلاف الرسول فإن عبارته كعبارة المرسل، ثم بالمرسل حاجة إلى تبليغ ذلك وقلما يجد عدلا يستعمله في الارسال إلى عبده ووكيله. فأما الفضولي فمتكلف لا حاجة به إلى هذا التبليغ والسامع غير محتاج إليه أيضا لانه معه دليل يعتمده للتصرف إلى أن يبلغه ما يرفعه، فلهذا شرطنا العدالة في الخبر في هذا القسم، ولا يشترط العدد لان اشتراطها لاجل منازعة متحققة وذلك غير موجود هنا، فإن كان المخبر هنا فاسقين فقد قال بعضهم يثبت بخبرهما لوجود أحد الشرطين. وقال بعضهم لا يثبت لان خبر الفاسقين لا يصلح للالزام كخبر الفاسق الواحد. ولفظ الكتاب مشتبه فإنه قال حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فقيل: معناه: رجلان عدل أو رجل عدل لان صيغة هذا النعت للفرد والجماعة واحد، ألا ترى أنه يقال: شاهدا عدل. ومن اعتمد القول الاول قال اشتراط زيادة العدد للتوكيد هنا بمنزلة اشتراط العدد في إخبار العدول في الشهادات فإنها للتوكيد، واستدل عليه بما قال في الاستحسان: لو أخبر أحد المخبرين بطهارة الماء والآخر بنجاسته وأحدهما عدل والآخر غير عدل، فإنه يعتمد خبر العدل منهما. ولو كان في أحد الجانبين مخبران وفي الجانب الآخر واحد واستووا في صفة العدالة فإنه يأخذ بقول الاثنين. وكذلك في الجرح والتعديل كما يرجح خبر العدل على خبر غير العدل يترجح خبر المثنى من العدول على خبر الواحد، فعرفنا أن في زيادة العدد معنى التوكيد. والذي أسلم في دار الحرب إذا لم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان لم يلزمه القضاء، فإن أخبره بذلك فاسق فقد قال مشايخنا هو على الخلاف أيضا: عند أبي حنيفة لا يعتبر هذا الخبر في إيجاب القضاء عليه، وعندهما يعتبر. قال رضي الله عنه: والاصح عندي أنه يعتبر الخبر هنا في إيجاب القضاء عندهم جميعا لان هذا المخبر نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور من جهته بالتبليغ كما قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فهو بمنزلة رسول المالك إلى عبده، ثم هو غير متكلف في هذا الخبر ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الأمر بالمعروف فلهذا يعتبر خبره.
|